الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ذكر جلّ وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء.الأول: أنه يحيي الموتى مؤكدًا ذلك متكلمًا عن نفسه بصيغة التعظيم.الثاني: أنه يكتب ما قدموا في دار الدنيا.الثالث: أنه يكتب آثارهم.الرابع: أنه أحصى كل شيء في إمام مبين. أي في كتاب بيِّن واضح، وهذه الأشياء الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع.أما الأول منها: وهو كونه يحيي الموتى بالبعث فقد جاء في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى.كقوله تعالى: {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقوله تعالى: {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]. وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 38] والآيات بمثل ذلك كثيرة.وقد قدّمناها بكثرة في سورة البقرة وسورة النحل في الكلام على براهين البعث وقدمنا الإحالة على ذلك مرارًا.وأما الثاني منها: وهو كونه يكتب ما قدموا في دار الدنيا فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]. وقوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]. وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 1314] وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا ويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ ُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهًَا} [الكهف: 49] الآية. وقوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].وقد قدّمنا بعض الكلام على هذا في سورة الكهف.وأما الثالث منها: وهو كونهم تكتب آثارهم فقد ذكر في بعض الآيات أيضًا.واعلم أن قوله: {وَآثَارَهُمْ} فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء.الأول منهما: أن معنى {مَاَ قَدَّمُواْ} ما باشروا فعله في حياتهم، وأن معنى {وَآثَارَهُمْ} هو ما سنّوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم.الثاني: أن معنى آثارهم خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير، وكذلك خطاهم إلى الشر، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» يعني خطاكم من بيوتكم إلى مسجده صلى الله عليه وسلم.أما على القول الأول فالله جل وعلا قد نص على أنهم يحملون أوزار من أضلوهم وسنوا لهم السنن السيئة كما في قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] الآية. وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].وقد أوضحنا ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] وذكرنا حديث جرير، وأبي هريرة في صحيح مسلم في إيضاح ذلك.ومن الآيات الدالة على مؤاخذة الإنسان بما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلالة. قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] بناء على أن المعنى بما قدّم مباشرًا له، وأخّر مما عمل به بعده ممّا سنه من هدى أو ضلال. وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار: 5] على القول بذلك.وأما على تفسير الثاني: وهو أن معنى {وَآثَارَهُمْ} خطاهم إلى المساجد ونحوها، فقد جاء بعض الآيات دالًا على ذلك المعنى كقوله تعالى: {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121] لأن ذلك يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم.وأما الرابع: وهو قوله تعالى: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} فقد تدّل عليه الآيات الدالة على الأمر الثاني، وهو كتابة جميع الأعمال التي قدّموها بناء على أن المراد بذلك خصوص الأعمال.وأما على فرض كونه عامًَّا فقد دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] وقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] بناء على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وهو أصحّ القولين. والعلم عند الله تعالى.{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)}.قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94].وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن الكفار: {وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} قد بيّن أنهم قد قالوا ذلك في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} [الملك: 89] الآية، وقد بيّن تعالى أن الذين أنكروا إنزال الله الوحي كهؤلاء أنهم لم يقدروه حق قدره: أي لن يعظموه حق عظمته، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91].قوله تعالى: {قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ}.قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] وذكرنا بعض الكلام عليه في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: {اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} [النمل: 47] الآية.قوله تعالى: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}.قد قدمنا الآيات الموضحة له، وما يتعلق بها من الأحكام في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29].{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}.قوله: فطرني معناه: خلقني وابتدعني، كما تقدّم إيضاحه في أول سورة فاطر.والمعنى: أي شيء ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني، وابتدعني، وأبرزني من العدم إلى الوجود، وما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده، الذي يستحق أن يعبد وحده، جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب الله.وقد قدّمنا إيضاح ذلك في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] الآية.{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}.الاستفهام في قوله تعالى: {أَأَتَّخِذُ} للإنكار، وهو مضمن معنى النفي: أي لا أعبد من دون الله معبودات، إن أرادني الله بضر لا تقدر على دفعه عني، ولا تقدر أن تنقذني من كرب.وما تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم فائدة المعبودات من دون الله جاء موضحًا في آيات من كتاب الله تعالى: كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} [الزمر: 38] وقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] وقوله تعالى: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 22] الآية. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظالمين} [يونس: 106]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي لا شفاعة لهم أصلًا حتى تغني شيئًا، ونحو هذا أسلوب عربي معروف، ومنه قول امرئ القيس:
فقوله: لا يهتدي بمناره: أي لا منار له أصلًا حتى يهتدي به.وقول الآخر: أي لا أرنب فيها، حتى تفزعها أهوالها، ولا ضب فيها حتى ينجحر: أي يتخذ حجرًا.وهذا المعنى هو المعروف هو المعروف عند المنطقيينبقولهم: السالبة لا تقتضي وجود الموضوع. كما تقدم إيضاحه. اهـ.
|